سورة يس - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


ولما ذكر سبحانه ما في الزروع وما لا ساق له من النعمة والقدرة، ودل السياق فيه على الحصر، أتبعه ما بين المراد التعظيم لا الحصر الحقيقي بإظهار المنة في غيره من الأشجار الكبار والصغار ذات الأقوات والفواكه، فقال دالاً على عظمه بمظهر العظمة: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {فيها} أي الأرض {جنات} أي بساتين تستر داخلها بما فيها من الأشجار الملتفة. ولما كان النخل- مع ما فيه من النفع- زينة دائماً بكونه لا يسقط ورقه، قدمه وسماه باسمه فقال: {من نخيل} وفيه أيضاً إشارة إلى أنه نفع كله خشبه وليفه وشعبه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وجماراً وبسراً ورطباً وتمراً، ولذلك- والله أعلم- أتى فيه بصيغة جمع الكثرة كالعيون، ولما كان الكرم لا تكون له زينة بأوراق تجن إلا ما كان العنب قائماً قال: {وأعناب} ودل بالجمع فيهما دون الحب على كثرة اختلاف الأصناف في النوع الواحد الموجب للتفاوت الظاهر في القدر والطعم وغير ذلك.
ولما كانت الجنات لا تصلح إلا بالماء، وكان من طبع الماء الغور في التراب والرسوب بشدة السريان إلى أسفل، فكان فورانه إلى جهة العلو أمراً باهراً للعقل لا يكون إلا بقسر قاسر حكيم قال: {وفجرنا} أي فتحنا تفتيحاً عظيماً {فيها} ودل على تناهي عظمته وتعاليها عن أن يحاط بشيء منها بالتبعيض بقوله: {من العيون} والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء، فكل موضع منها صالح لأن ينفجر منه الماء، ولكن الله يمنعه عن بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس منها شيء غالباً على الأرض، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض لتكون موضعاً للسكن، ولو شاء لفجر الأرض عيوناً كما فعل بقوم نوح عليه السلام فأغرق الأرض كلها.
ولما كانت حياة كل شيء إنما هي بالماء، أشار إلى ذلك بقوله: {ليأكلوا من} وأشارت قراءة حمزة والكسائي بصيغة الجمع مع إفراد الضمير إلى أن الشجرة الواحدة تجمع بالتطعيم أصنافاً من الثمر {ثمره} أي من ثمر ما تقدم، ولولا الماء لما طلع، ولولا أنه بكثرة لما أثمر بعد الطلوع.
ولما كان الإنسان قد يتسبب في تربية بعض الأشياء، أبطل سبحانه الأسباب فيما يمكن أن يدعو فيه تسبباً، ونبه على أن الكل بخلقه فقال: {وما عملته} أي ولم تعمل شيئاً من ذلك {أيديهم} أي عملاً ضعيفاً- بما أشار إليه تأنيث الفعل فكيف بما فوقه وإن تظافروا على ذلك بما أشار إليه جمع اليد. ولما كان السياق ظاهراً في هذا جاءت قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بحذف الضمير غير منوي قصراً للفعل تعميماً للمفعول رداً لجميع الأمور إلى بارئها سواء كانت بسبب أو بغير سبب، أي ولم يكن لأيديهم عمل لشيء من الأشياء لا لهذا ولا لغيره مما له مدخل في عيشهم ومن غيره، ولذلك حسن كل الحسن إنكاره عليهم عدم الشكر بقوله: {أفلا يشكرون} أي يدأبون دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم الكبار.
ولما كان السياق لإثبات الوحدانية والإعلام بأن ما عبد من دونه لا استحقاق له في ذلك بوجه، ولا نفع بيده ولا ضر، وأنتج هذا السياق بما دل عليه من تفرده بكل كمال وأنه لا أمر لأحد معه بوجه من الوجوه- تنزهه عما ادعوه من الشرك غاية التنزه، قال لافتاً للكلام عن مظهر العظمة لأن إثباتها بالرحمة الدال عليها أدخل في التعظيم: {سبحان الذي} ووصفه بما أكد ما مضى من إسناد الأمور كلها إليه ونفى كل شيء منها عمن سواه فقال: {خلق الأزواج} أي الأنواع المتشاكلة المتباينة في الأوصاف وفي الطعوم والأرابيح والأشكال والهيئات والطبائع وغير ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله تدل أعظم دلالة على كمال القدرة وعظيم الحكمة والاختيار في الإرادة، وأكد بقوله: {كلها} لإفادة التعميم؛ ثم زاد الأمر تصريحاً بالبيان بقوله: {مما تنبت الأرض} فدخل فيه من كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها، وأشار- لكونه في سياق تكذيبهم- إلى تأديبهم بتحقيرهم بجمع القلة والتعبير بالنفس التي تطلق في الغالب على ما يذم به فقال: {ومن أنفسهم} وبين أن وراء ذلك أموراً لا يعلمها إلا هو سبحانه فقال: {ومما لا يعلمون} أي ومما لا يحتاجون إليه في دينهم ولا دنياهم، ولا توقف لشيء من إصلاح المعاش والمعاد عليه، ولو كان ذلك لأعلم به كما أعلم بأحوال الآخرة وغيرها مما لم نكن نعلمه.
ولما دربهم على النظر بآيات الأعيان الحسية الدالة على القدرة الباهرة لا سيما على البعث، رقاهم إلى المعاني على ذلك النحو، فإن إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه أدل دليل على البعث، فقال ناقلاً لهم من المكان الكلي إلى الزمان الكلي الجامعين للجواهر والأعراض: {وآية لهم} أي على إعادة الشيء بعد إفنائه {الّيل} أي الذي يشاهدونه لا شك عندهم فيه ولا حيلة بوجه في رفعه؛ ثم استأنف قوله: {نسلخ} عائداً إلى مظهر العظمة دلالة على جلالة هذا الفعل بخصوصه.
ولما كان الأصل في هذا الوجود الظلام، والضياء حادث، وكان ضياؤه ليس خالصاً، عبر ب {من} التي تصلح للملابسة مع التخلل في الأجزاء فقال: {منه النهار} أي الذي كان مختلطاً به بإزالة الضوء وكشفه عن حقيقة الليل {فإذا هم} بعد إزالتنا للنهار الذي سلخناه من الليل {مظلمون} أي داخلون في الظلام بظهور الليل الذي كان الضياء ساتراً كما يستر الجلد الشاة، قال الماوردي: وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم- نقله ابن الجوزي عنه، وقد أرشد السياق حتماً إلى أن التقدير: والنهار نسلخ منه الليل الذي كان ساتره وغالباً عليه فإذا هم مبصرون.
ولما ذكر الوقتين، ذكر آيتيهما فقال: {والشمس} أي التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها {تجري} ولما كان غيابها بالليل مثل سكون الإنسان في مبيته، وجعلها على خط قدر لسيرها كل يوم بتقدير لا زيع فيه ومنهاج لا يعوج، قال: {لمستقر} أي عظيم {لها} وهو السير الذي لا تعدوه جنوباً ولا شمالاً ذاهبة وآئبة، وهي فيه مسرعة- بدليل التعبير باللام في موضع إلى ويدل على هذا قراءة {لا مستقر لها} بل هي جارية ابداً إلى انقراض الدنيا في موضع مكين محكم هو أهل للقرار، وعبر به مع أنها لا تستقر ما دام هذا الكون لئلا يتوهم أن دوام حركتها لأجل أن موضع جريها لا يمكن الاستقرار عليه، ولا ينافي هذا ما في صحيح البخاري وفي كتاب الإيمان من صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مستقرها تحت العرش، وأنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها» هذا لفظ مسلم، وسيأتي لفظ البخاري، ويمكن أن يكون المستقر آخر جريها عند إبادة هذا الوجود.
ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه، وتتحير الأفهام في استنباطه، عظمه بقوله: {ذلك} أي الأمر الباهر للعقول؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله: {تقدير} وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على أنها أكبر آيات السماء فقال: {العزيز} أي الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة، وهو غالب على كل شيء {العليم} أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته، روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: «يا أبا ذر! أتدري أين تذهب؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها}».


ولما ذكر آية النهار، أتبعها آية الليل فقال: {والقمر} ومعناه في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وروح عن يعقوب بالرفع: يجري لمستقر له، ونصبه الباقون دلالة على عظمة هذا الجري لسرعته بقطعه في شهر ما تقطعه الشمس في سنة، ولذلك ضعف الفعل المفسر للناصب وأعمله في ضمير القمر ليكون مذكوراً مرتين فيدل على شدة العناية تنبيهاً على تعظيم الفعل فيه، وأعاد مظهر العظمة فقال مستانفاً في قراءة الرفع: {قدرناه} أي قسناه قياساً عظيماً أي قسنا لسيره {منازل} ثمانية وعشرين، ثم يستسر ليلتين: عند التمام وليلة للنقصان لا يقدر يوماً أن يتعداه قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً ثم يدنو فكلما ازداد من الشمس دنواً ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى. {حتى عاد} أي بعد أن كان بدراً عظيماً {كالعرجون} من النخل وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منتهاه وهو منبته من النخلة دقيقاً منحنياً، وهو فعلول ذكره أهل اللغة في النون وقالوا: عرجن الثوب: صور فيه صور العراجين، وقال المفسرون: إنه من عرج، أي أعوج. ولما كانت حمرته آخذة إلى صفرة قال: {القديم} أي المحول، فإن العرجون إذا طال مكثه صار كذلك، فدق وانحنى واصفر.
ولما تقرر أن لكل منهما منازل لا يعدوها، فلا يغلب ما هو آيته ما هو آية الآخر، بل إذا جاء سلطان هذا ذهب ذاك، وإذا جاء ذاك ذهب هذا، فإذا اجتمعا قامت الساعة، تحرر أن نتيجة هذه القضايا: {لا الشمس} أي التي هي آية النهار {ينبغي لها} أي ما دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب {أن تدرك} أي لأن حركتها بطيئة {القمر} أي فتطمسه بالكلية، فما النهار سابق الليل {ولا الّيل سابق النهار} أي حتى ينبغي للقمر مع سرعة سيره أن يدرك الشمس ويغلبها فلا يوجد نهار أصلاً، ولو قيل: يستبق لاختل المعنى لإيهامه أنه لا يتقدمه أصلاً فالآية من الاحتباك: نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها دليلاً على ما حذف من الثانية من نفي إدراك القمر للشمس، وذكر ثانياً سبق الليل النهار لما له من القوة بما يعرض من النهار فيغشيه دليلاً على حذف سبق النهار الليل أولاً {وكل} أي من المذكورات حقيقة ومجازاً {في فلك} محيط به، ولما ذكر لها فعل العقلاء، وكان على نظام محرر لا يختل، وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل، فكان منزهاً عن آفة تلحقه، أو ملل يطرقه، عبر بما تدور مادته على القدرة والشدة والاتساع فقال: آتياً بضمير العقلاء جامعاً لأنه أدل على تسخيرهم دائماً: {يسبحون} حثاً على تدبر ما فيها من الآيات التي غفل عنها- لشدة الإلف لها- الجاهلون.
ولما ذكر ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك لو تعداها لاختل النظام، ذكر ما هيأه من الفلك للسباحة على وجه الماء الذي طبق الأرض في زمن نوح عليه السلام حتى كانت كالسماء، ولو تعدت السفينة ما حد لها سبحانه من المنازل فنفذت إلى بحر الظلمات لفسد الشأن، وكانوا فيها كأنهم في الأرض، وبسيرها كأنهم يخترقون الجبال والفيافي والقفار- كل ذلك تذكيراً بأيام الله، وتنبيهاً على استدرار نعمه، وتحذيراً من سطواته ونقمه، ومنّاً عليهم بما يسر لهم من سلوك البحر والتوصل به إلى جليل المنافع فقال: {وآية لهم} أي على قدرتنا التامة الشامل {أنا} أي على ما لنا من العظمة {حملنا}.
ولما كان من قبل نوح عليه السلام من أصول البشر لم يحملوا في الفلك، عدل عن التعبير بالضمير والآباء إلى قوله: {ذريتهم} أي ذرية البشر التي ذرأناها وذروناها وذررناها حتى ملأنا بها الأرض من ذلك الوقت إلى آخر الدهر، ولهذا التكثير المفهوم من هذا الاشتقاق البليغ اغتنى ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون فقرؤوا بالإفراد، وزادت في الإيضاح قراءة الباقين بالجمع، بعضهم ظاهراً وبعضهم في ظهر أبيه {في الفلك} عرفه لشهرته بين جميع الناس {المشحون} أي الموقر المملوء حيواناً وزاداً، وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير قط مثلها ولا يرى أبداً، ومع ذلك فسلمه الله.
ولما كانت هذه الآية لم تنقطع بل عم سبحانه بنفعها: {وخلقنا} أي بعظمتنا الباهرة {لهم من مثله} أي من مثل ذلك الفلك من الإبل والفلك {ما يركبون} أي مستمرين على ذلك على سبيل التجدد ليقصدوا منافعهم، ولو شئنا لمنعنا ذلك.
ولما كان قد أنجى سبحانه آباءنا حين حمله في ذلك الماء الذي لم يكن مثله قط، وكان ربما ظن أن الإنجاء لسر من الأسرار غير إرادته، جعل أمر ما خلق من مثله تارة وتارة ليعرف أن ذلك هو بصنعه فتشكر نعمته أولاً وآخراً فقال: {وإن نشأ} أي لأجل ما لنا من القوة الشاملة {نغرقهم} أي مع أن هذا الماء الذي يركبونه لا يعشر ذلك الذي حملنا فيه آباءهم {فلا صريخ لهم} أي مغيث ينجيهم مما نريد بهم من الغرق {ولا هم} أي بأنفسهم من غير صريخ {ينقذون} أي يكون لهم إنقاذ أي خلاص بأنفسهم أو غيرها.
ولما كان هو سبحانه يصرخ من يشاء فينجيه وكانت لا نافية نفياً مستغرقاً، استثنى ما كان منه سبحانه فقال: {إلا رحمة} أي إلا نحن فننقذهم إن شئنا رحمة {منا} أي لهم، لا وجوباً علينا، ولا لمنفعة تعود منهم إلينا {ومتاعاً} أي لهم {إلى حين} أي وهو حين انقضاء آجالهم.
ولما كان هذا الحال معلوماً لهم لا ينازعون فيه بوجه، بل إذا وقعوا فيه أخلصوا الدعاء وأمروا به وخلعوا الأنداد، وكان علم ذلك موجباً لصاحبه أن لا يغفل عن القادر عليه وقتاً ما، بل لا يفتر عن شكره خوفاً من مكره، وكان العاقل إذا ذكر بأمر فعلمه يقيناً كان جديراً بأن يقبله، فإذا لم يقبله وخوف عاقبته بأمر محتمل جد في الاحتراز منه، عجب منهم في إعراضهم عنه سبحانه مع قيام الأدلة القاطعة على وحدانيته وأنه قادر على ما يريد من عذاب وثواب، وإقبالهم على ما لا ينفعهم بوجه، فقال: {وإذا قيل} أي من أي قائل كان {لهم اتقوا} أي خافوا خوفاً عظيماً تعالجون فيه أنفسكم {ما بين أيديكم} أي بما يمكن أن تقعوا فيه من العثرات المهلكة في الدارين {وما خلفكم} أي ما فرطتم فيه ولم تجاروا به ولا بد من المحاسبة عليه لأن الله الذي خلقكم أحكم الحاكمين {لعلكم ترحمون} أي تعاملون معاملة المرحوم بالإكرام.


ولما كان التقدير: أعرضوا لأن الإعراض قد صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك من أسره، عطف عليه قوله إشارة إليه: {وما تأتيهم} وعمم بقوله: {من آية} وبين قوله: {من آيات} ولفت الكلام للتذكير بالإنعام تكذيباً لهم في أنهم أشكر الناس للمنعم فقال: {ربهم} أي المحسن إليهم {إلا كانوا عنها} أي مع كونها من عند من غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه {معرضين} أي دائماً إعراضهم.
ولما كانت الرحمة بالرزق والنصر إنما تنال بالرحمة للضعفاء «هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» وكان الإنفاق خلق المؤمنين، قال مبيناً أنهم انسلخوا عن الإنسانية جملة فلا يخافون ما يجوز وقوعه من العذاب، ولا يرجون ما يجوز حلوله من الثواب: {وإذا قيل لهم} أي من أيّ قائل كان: {أنفقوا} أي على من لا شيء، شكراً لله على ما أنجاكم منه ونفعكم به بنفع خلقه الذين هم عياله، وبين أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه ولم تعمله أيديهم بل ببعضه فقال: {مما رزقكم} وأظهر ولم يضمر إشارة إلى جلالة الرزق بجلالة معطيه، وزاد في تقريعهم بجعل ذلك الظاهر اسم الذات لأنه لا ينبغي أن يكون عطاء العبد على قدر سيده فقال: {الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {قال} وأظهر تبكيتاً لهم بالوصف الحامل لهم على البخل فقال: {الذين كفورا} أي ستروا وغطوا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من الخيرات {للذين آمنوا} أي القائلين بذلك المعتقدين له سواء كانوا هم القائلين لهم أو غيرهم منكرين عليهم استهزاء بهم عادلين عما اقتضى السؤال عن ذكر الإنفاق إلى ما يفيد التقريع بالفقر والحاجة إلى الأكل: {أنطعم} وعدلوا عن التعبير بالماضي لئلا يقال لهم: قد تولى سبحانه إطعامه من حين خلقه إلى الآن، فقالوا: {من لو يشاء} وأظهروا حدّاً له ومساعيه فقالوا: {الله} أي الذي له جميع العظمة كما زعمتم في كل وقت يريده {أطعمه} أي لكنا ننظره لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم لما نرى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك بموافقة لمراد الله فيه فتركوا التأدب مع الأمر وأظهروا التأدب مع بعض الإرادة المنهي عن الجري معها والاستسلام لها، وما كفاهم حتى قالوا لمن أرشدهم إلى الخير على طريق النتيجة لما تقدم: {إن} أي ما {أنتم إلا في ضلال} أي محيط بكم {مبين} أي في غاية الظهور، وما دروا أن الضلال إنما هو لهم لأنه سبحانه إنما جعل إطعام بعض خلقه بلا واسطة وبعضهم بواسطة امتحاناً منه للمطيع والعاصي والشاكر والكافر والجزع والصابر- وغير ذلك من حكمه.
ولما ذكر قلة خيرهم المستندة إلى تهكمهم باليوم الذي ذكروا به بالأمر بالاتقاء والتعليل بترجي الرحمة، أتبعه حكاية استهزاء آخر منهم دال على عظيم جهلهم بتكذيبهم بما يوعدون على وجه التصريح بذلك اليوم والتصوير له بما لا يسع من له أدنى مسكة غير الانقياد له فقال: {ويقولون} أي عادة مستمرة مضمونة إلى ما تقدم مما يستلزم تكذيبهم، وزادوا بالتعبير بأداة القرب في تقريعهم إشارة إلى أنكم زدتم علينا في التهديد به والتقريب له حتى ظن أنه مصبحنا أو ممسينا ولم نحس منه عيناً ولا أثراً: {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا: {الوعد} أي الذي تهددوننا به تارة تلويحاً وتارة تصريحاً، عجلوه لنا. وألهبوا وهيجوا زيادة في التكذيب بقولهم: {إن كنتم صادقين} ولما كان الحازم من لا يتهكم بشيء إلا إذا استعد له بما هو محقق الدفع، بين سفههم بإتيانها بغتة وبأنه لا بد من وقوعها، وأنها بحيث تملأ السماوات والأرض، فكأنه لا شيء فيهما غيرها بقوله: {ما ينظرون} أي مما يوعدون ويجوز أن يكون بمعنى ينتظرون لأن استبطاءهم لها في صورة الانتظار وإن أرادوا به الاستهزاء وجرد الفعل تقريباً لها لتحقق وقوعه {إلا صيحة} وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته بقوله: {واحدة} وهي النفخة الأولى المميتة، واقتصر في تأكيد الوحدة على هذا بخلاف ما يأتي في المحيية لأنهم لا ينكرون أصل الموت {تأخذهم} أي تهلكهم؛ وبين غرورهم بقوله: {وهم يخصمون} أي يختصمون أي يتخاصمون في معاملاتهم على غاية من الغفلة، ولعله عبر بذلك إشارة بالإدغام اللازم عنه التشديد إلى تناهي الخصام بإقامة أسبابه أعلاها وأدناها إلى حد لا مزيد عليه لأن التاء معناه عند أهل الله انتهاء التسبيب إلى أدناه وكل ذلك إشارة إلى أنهم في وقت الصعق يكونون في أعظم الأمان منها لأن إعراضهم عنها بلغ إلى غاية لا مزيد عليها، ويشير الإدغام أيضاً إلى أن خصومتهم في غاية الخفاء بالنسبة إلى الصيحة، وأن بلغت الخصومة النهاية في الشدة، ولم يقرأ أحد يختصمون بالإظهار إشارة إلى أنه لا يقع في ذلك الوقت خصومه كاملة حتى تكون ظاهرة بل تهلكهم الصيحة قبل استيفاء الحجج وإظهار الدلائل، فمنها ما كان ابتدأ فيه اصحابه فأوجزوا- بما أشارت إليه قراءة حمزة بإسكان الخاء وكسر الصاد مخففاً، ومنها ما كان متوسطاً وفيه خفاء وعلو- بما أشار إليه تشديد الصاد مع اختلاس فتحة الخاء، ومنها ما هو كذلك وهو إلى الجلاء أقرب- بما أشار إليه إخلاص فتحة الخاء مع تشديد الصاد، وأشار من قرأه كذلك مع كسر الخاء إلى التوسط مع الخفاء والسفول، والله أعلم.
ولما كانت هذه النفخة المميتة، سبب عنها قوله: {فلا يستطيعون توصية} أي أن يوجدوا الوصية في شيء من الأشياء، والاستفعال والتفعيل يدلان على أن الموت ليس حين سماع أول الصوت بل عقبه من غير مهلة لتمام أمر ما.
ولما كان ذلك ليس نصّاً في نفي المشي قال: {ولا إلى أهلهم} أي فضلاً عن غيرهم {يرجعون} بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجأه الصيحة، وربنا أفهم التعبير ب {إلى} أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها، وفي الحديث «ليقومن من الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها».
ولما دل ذلك على الموت قطعاً، عقبه بالبعث، ولذلك عبر فيه بالنفخ فإنه معروف في إفاضة الروح فقال: {ونفخ في الصور} أي الذي أخذتهم صيحته، وجهله إشارة إلى أنه لا توقف له في نفس الأمر على نافخ معين ليكون عنه ما يريد سبحانه من الأثر، بل من أذن له الله كائناً من كان تأثر عن نفخه ما ذكر، وإن كنا نعلم أن المأذون له إسرافيل عليه السلام.
ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده سواء من غير تخلف، عبر سبحانه بما يدل على التعقب والتسبب والفجاءة فقال: {فإذا هم} أي في حين النفخ {من الأجداث} أي القبور المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ {إلى ربهم} أي الذي أحسن إليهم بالتربية والتهيئة لهذا البعث فكفروا إحسانه، لا إلى غيره {ينسلون} أي يسرعون المشي مع تقارب الخطى بقوة ونشاط، فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة، حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى، كأنه ركب فيه من الأسرار أنه يكسب كل شيء ضد ما هو عليه من حياة أو موت أو غشي أو إفاقة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6